Hazem Taha Hussein

مابين ثقافة الحرفة اليدوية وثقافة الصناعة

 

مابين ثقافة الحرفة اليدوية وثقافة الصناعة فى التيبوغرافيا 

 

ا.د.م محمد حازم محمد طه حسين

الأستاذ المساعد بقسم الإعلان-كلية الفنون التطبيقية - جامعة حلوان                                   IC1-2008, 386-403

 

 

  1. 1. المقدمة

إزداد بالآونة الآخيرة فى العديد من بلدننا العربية، وبالأخص فى مجالات التصميم المرئى بشتى تخصصاته، ظاهرة زخرفية، تتناقض مع متطلبات العصر، التى تهتم بالمقام الأول بالبعد الوظيفى لكنهه الرسالة التصميمية، وأيضاً بأفضل السبل الإقتصادية لتوصيلها. فالمصمم الجرافيكى الأوروبى قد وجد حلولاً منذ أكثر من قرن لطبيعة العلاقة التاريخية بينالوظيفةوالجمال، نابعة من ثقافة الصناعة، وقام بإستبعاد كل مايشغل السطح الطباعى من أشكال لا تخدم كنهه العمل. وعلى العكس من ذلك، مازلنا اليوم نرى من خلال: الكم الهائل من المطبوعات، وصفحات الأنترنت، وما يظهر على شاشات التلفاز، من أحجام وأشكال وألوان، تمتلئ بالرموز وبأنواع الكتابات -الغير مقرؤة بوضوح فى معظم الأحوال- مايذكرنا بعصور سابقة لم يلعب بها عنصرالتعرف السريععلى المعلومة المكتوبة، دوراً أساسياً. 

والشئ المميز لتلك الظاهرة، هو التشابهة الكبير بين الحلول التصميمية للمنتج التطبيقى، والذى تارة نراة عاكساً لثقافة الحرفة اليدوية، وتارة أخرى عاكساًلثقافة ما شبيهه بثقافة الصناعة. وقد أرجع البعض ذلك، إلى إستخدام المصمم العربى لـإسطمبات البرامج Program Templates“، ورغبتة فى إظهار حرفيتة فى إخراج تصميم يعكس قدراتة فى التعامل مع الحاسب الآلى، أو لمحاولتة الدائبة لتقليد إتجاهات غربية (أوروبية أو أمريكية ..إلخ) حديثة أو معاصرة. والأهم هنا هو هوية المنتج ذاته، التى ظهرت وكأنها نتاج لإتجاة جرافيكى/عربى، ليدفعنا بالتالى للتساؤل: هل مايحدث الآن ذى هوية عربية؟ أم خليط - مازال فى طور النمو - بين ثقافتين عربية وأخرى غربية؟ أم هو مجرد ظاهرة عابرة يصعب علينا تفسيرها اليوم؟

ورغم تعرضنا فى أبحاث عديدة لكنهه العلاقة بين الوظيفة والجمال، إلا إننا مازلنا فى أمس الحاجة إلى مناقشتها مرة أخرى، طارحيين الأسئلة عن التيبوغرافيا الحديثة، ومرغمين على تحليل التجربة الغربية الفنية، كاشفين عن بعض الحلول البصرية من آرثنا العربى. وسيبدأ البحث فى توضيح الفروق بين الكاليجرافيا Calligraphy (الحروف والأشكال المكتوبة والمرسومة بنظم يدوية) (٢)، وبين التيبوغرافيا Typography (الحروف والأشكال والنظم الطباعية) (٣) كوسائط إتصالية تختلف فى أهدافها الوظيفية، وفى معايرها الإستاطيقية، ومنتهياً بالخلاصة والنتائج (٤).

 

  1. 2. فن الكتابة-الكاليجرافيا Calligraphy وثقافة الحرفة اليدوية:

تعنى كلمة كاليجرافيا باليونانية فن الكتابة (from Greek: κάλλος kallos "beauty" + γραφή graphẽ "writing")، بغرض توصيل معلومة ما أو الحفاظ عليها لأجيال لاحقة. وقد رسخ هذا المفهوم فى الأذهان بأوروبا، حتى نهايات القرن التاسع عشر، فى وقت لم تكن القاعدة العريضة من المجتمع الغربى تتقن الكتابة. حتى نجدة اليوم - على مستوى العالم الغربى - أكثر تطوراً، فأصبحت الكاليجرافيا: الفن الذى يعطى للعلامات أشكالاً معبرة، ومتناسقة، تعكس إنطباع كاتبها. وبهذا التعريف من إرهارد د. شتيبنر E.D. Stiebner و فالتر ليوناهرد W. Leonhard، وأخرين أمثال يوهانس فريدريش J. Freidrich و أ. ي. جلب I.J.Gelb، نجد أن هيمنة ثقافة الحرفة اليدوية على منظومة الإتصال، وتأثيرها على وسائطة، قد تضائلت فى العالم الغربى بشكل كبير. فالعالم المتقدم كان يعيش حتى السبعينيات من القرن المنصرم داخل منظومة ثقافة الصناعة، ودخل بالفعل منذ بدايات الآلفية الحالية فى منظومة جديدة وهى ثقافة السيبرنيتيك cybernetics, القائمة على علوم الإتصال ونظم التحكم الآلى فى الماكينات والمجودات الحية، مستعينة بلغة وعلوم الكمبيوتر كركيزة لها (شكل ١).

 

النظرية

التطبيق

الفترة الزمنية

مثال

الفن

الحرفة يدوية

حوالى عام ١٩٠٠

فن الطليعة (تصميم المنتجات)

 

 

 

الفن

الصناعة

حوالى عام ١٩٢٥

إتحاد الصناعات / الباوهاوس (شكل ذى صبغة صناعية)

 

 

 

العلم

الصناعة

حوالى عام ١٩٥٠

المدرسة العليا بـ أولم (تصميم صناعى)

 

 

 

السيبرنيتيك

الصناعة

حوالى عام ١٩٧٥

كاد CAD (تصميم الأنظمة)

 

 

تــداخــل

السيبرنيتيك

الآلية

حوالى عام ٢٠٠٠

مابعد- ”...“ (تصميم البرمجيات للحاسب الآلى)

شكل ١: ”فى تفهم لطبيعة التصميم والعمارة، سيجفرد مازر، ١٩٩٨، ص ١٩.

 

فكيف نستطيع كمجتمع عربى تفهم لمعنى الكاليجرافيا فى ظل الآلفية الحالية؟ هل يجب أن نتناولها كما يتناولها الغرب الآن: أولاً كفن (أبعاد إستاطيقية)، وثانياً كوظيفة (أبعاد إتصالية-معلومة لفظية تقرأ بوضوح فى زمن قصير)؟ وإذا أخذنا بهذا التناول، فما هو مفهومنا الحالى عن الفن أو الوظيفة؟ فما يثير الدهشة، أننا مازلنا نقوم بتصميم أنماط من الخطوط لاتقرأ، أو بتكرار لأنماط خطوط عربية كاليجرافية، وتغذية الحاسب الآلى بها، بل ونتمسك فى نفس الوقت بحلول تصميمية للسطح، لا نعرف مصدرها (عربية أم غربية)، ولانجد لكل ذلك تفسيراً مقنعاً.. وقبل الإجابة على تلك التساؤلات، علينا أولاً البدء بعرض لدراسة مختصرة لبعض النماذج من آرثنا البصرى، ومعرفة دور الكاليجرافيا العربية، فى إطار مفهومروح العصر والمنظومة البصرية، مع توضيح للبعد الإستاطيقى، والذى يقوم بطبيعة الحال على معايير واضعة لحدود بينالجمال والقبح، والمتواجدة فى إطار ثقافى ما وفى عصر محدد. ثم إستعراض لاحق لأسلوب الخطاط وآلياتة فى سبل التعبير، من تكوين وتناغم وتراص ونسب الكلمات وهكذا، لنتعرف على كيفية تحكم معايير العصر فى شكل المنتج التطبيقى وكنهه رسالتة اللغوية. 

 

    1. 2.1. روح العصر والمنظومة البصرية:

أن المصمم أو المعمارى - فى عصور لم تُعرف بها ثقافة الصناعة بعد - كان يحاول جاهداً إيجاد قيم معنوية تتوائم مع روح عصره لتنعكس من خلال شـكل المنتج التطبيقى. فإنصب إهتمامة فى إيجاد معادلة مكونة من شقين: (الأول) الوظيفة، وبها تراعى النواحى الإستخدامية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها، للمبنى أو للمسجد أو للسجاد أو للكوب أو للأنية، (الثانى) الجمال، وبها يراعى الجانب البصرى، من أختيار لأشكال وأحجام ومساحات وحلول تقنية، ودرجات لونية. فيظهر شكل المنتج التطبيقى من خلال إزدواجية تلك العلاقة، ملبياً للغرض الذى صمم من أجله. والأمثلة لذلك عديدة، فيجدر بنا النظر للتصميم المعمارى لمسجد السلطان حسن (شكل ٢/ب)، من نسب معمارية بين خطوطة الرأسية والأفقية (المئذنة المغالى بها الإرتفاع الطولى، ومروراً بينها وبين مساحة الأرض المقام عليها المسجد)، ومن تصميم داخلى لأروقته المختلفة الوظائف، وحوائطة الشاهقة الإرتفاع والمزينة من أسفلها إلى أعلاها بزخارف، تخلق ما عرفة الغرب حديثاً بالخداع البصرى Visual Deceive، والذى يعنى عدم قدرة العين على الوقوف عند زخرف واحد وتأملة، لتنتقل من عنصر إلى أخر، وتحدث حالة تفاعلية بينها وبينه. فالمتلقى يدخل مع العنصر الزخرفى فى حوار غاية فى الخصوصية ومليئ بالديناميكية. 

 

شكل ٢: (أ) قصر خرابات المفچر-خط كوفى بسيط، ق. ٧م. (ب) مسجد ومدرسة السلطان حسن-خط نسخى مملوكى ق. ١٤. (ج) مسجد السليمانية-خط ديوانى نهايات ق. ١٦. (د) عمارة قوطية-خط قوطى مينوسكل ق. ٩. (هـ) عمارة الرومانيستك-خط الكتاب الإيطالى ق. ١٢. (و) عمارة الرينيسانس-خط المينوسكل الإنسانى وخط الأنتيك ق. ١٥-١٦.

فكانت كل الجهود تهدف إلى تفهم المسجد، بخلاف كونه عملاً معمارياً جميلاً، كرمز للقوة والرقى لدولةدين وعلم“. فمن خطط له كان يريد توصيل تلك المعلومة المضافة لزائرية، عاكساً من خلالها مدى التقدم الهندسى والفنى والفيزيقى والرياضى والإقتصادى ...إلخ لعصره. فلم يكن إبداع الزخارف الهندسية وتكرارها بغرض تزيين الحوائط فحسب - كما نفعل نحن اليوم - ولكن أولاً بغرض تشتيت رؤية المصلى، بهدف مساعدتة أثناء الصلاة على التركيز فى روحانيات المكان، والتقرب إلى الله سبحانه، عن طريق إنفصالة لحظياً عن عالم الماديات والواقع. وكما هو الحال بالنسبة إلى التصميم المعمارى أو الزخرفى، ظهر نمط خط النسخى المملوكى، كرمز بصرى لروح عصره. فمثلة مثل المأذن الشاهقة الإرتفاع، الدالة عن القوة والتقدم العلمى، كان هو الأخر يتميز من جانب، بطول حروفه القائمة، مثل الألف واللام (شكل ٢/ب)، ومن جانب أخر يعكس ما كان الخطاط يصبو إلية من إنتاج علامة جديدة تجمع بين الهوية الآيدولوچية والقيم الجمالية السائدة. فقام بإنتقاء عبارات دينية غاية فى رقى دلالاتها, وكرارها فى أماكن عده، مثل عبارة: لا غـالب إلا اللـه، والتى إختير بها عدد من أحرف الألف لتتساوى مع عدد مماثل لها من أحرف اللام، لتعطينا النسب الهندسية بين الحروف القائمة والنائمة ذو الأشكال الموحد بها النهايات، إيحاءات روحانية، وجملة بصرية غاية فى الرقة. 

 

        

 

شكل ٣-٥: من اليمين: صفحة من القرآن الكريم، خط نسخى وتعليق، مضاف إلى الحواف نصوص مكتوبة، حوالى القرن التاسع عشر. نصوص بخط نسخى، توضح إستخدام الحواف والكتابة بها، حوالى ؟. 

 

وقد يتشابهة بتلك الجزئية، تطور الخط العربى بالفنون الإسلامية، مع تطور الخطوط اللاتينية - من حيث العلاقة بين الشكل وبين روح العصر. ولكن الخط العربى كان له مكانة أكبر وأعظم ذو بعد أيدولوچى. فالإبدعات الإنسانية فى لغة الكتابة وتصميم الأحرف بالحضارات الأوروبية السابقة (رومانية أو يونانية أو غيرهما)، لاتضاهى إبداع الخطاط المسلم لكتابتها (فى عصور كثيرة). فقد كانت عقيدتة التى تقوم على كلمة الله سبحانه وتعالى، هى المحرك الأساسى له والدافع لكتابتها بعناية فائقة، وبخط عربى منمق وواضح فى قرآن كريم، يخلو من التشخيص، ويرسم به الزخرف بغرض التأكيد على دلالة لفظية بعينها، لينشئ بذلك لغة بصرية تعتمد على التجريد والرمز. وقد ساعد تعدد المذاهب والمدارس الفقهيه  والسماح فى العصر العباسى لغير العرب من الإيرانين والعراقيين بممارسة مهنه الخطاط، على ظهور إتجاهات عديدة، منها من لجأ إلى لغة العقل، مثل إبن مقلة (بين القرن التاسع والعاشر)، وإبن البواب (القرن الحادى عشر)، وياقوت المستعصمى (القرن الثالث عشر)، ومنها من إحتذى بمنطقميتافيزقى مهجنبثقافة وتقاليد البلد التى نشأت بها. فخرج العمل الكاليجرافى من منظومة تختلف إختلافاً كبيراً عن منظومة هؤلاء الكاليجرافيين أو عن المثال المملوكى السابق ذكرة. فنرى الحروفيين، والذين سوف نتعرض لهم لاحقاً، يبدعون أعمالاً يصعب التعرف على اللفظ بها. فهم يعتمدون على الإزدواجية بين دلالات العناصر الطبيعة من وجوة وطيور وماشابه، وبين المعنى اللفظى للكلمه.

وعلى مدى التاريخ الإسلامى، كان الخطاط - فى عصور كثيرة - يبدع نوعان من الحروف الهجائية، وأيضاً نوعان من نظم توزيع الكتابة والزخرف على السطح، ليتماشان جنباً  إلى جنب. فتارة تصمم أشكال الحروف بغرض القراءة وتارة أخرى بغرض جمالى، وكأنه يلعب بالمساحات والخطوط بمفهوم اللوحة التشكيلية. فتارة نجد نصوص تكتب داخل أطره هندسية وبتناسق، وتوزيع الكلمات والجمل فى نظام يوفر الوضوح. مستخدماً لنسب غير مبالغ بها الإرتفاع أو النزول، لتسهيل عملية القراءة. وتارة أخرى نجد عكس ذلك، فيمتلئ السطح بالرموز من حروف وأرقام وألوان وعناصر زخرفية.

لذا قد تزداد قيمة العمل الكاليجرافى الجمالية بأحد العصور، عندما تنجح الحلول البصرية فى الربط بين اللغة اللفظية واللغة البصرية، وينظر إليها كناتج متميز. وفى عصر أخر، أو حتى بنفس الحقبة، قد تفقد نفس الأعمال قيمتها، وتستبدل بأعمال أخرى نابعة من معايير جديدة.

 

 

    

شكل ٦-٧: صفحتين من القرآن الكريم، خط ثلث ونسخى مملوكى، حوالى ١٤٣٥-٣٦، وقف السلطان المملوكى باريسباى.

    1. 2.2. الحروفية واللفظ العربى المكتوب:

إن الخطاط أو الكاليجرافى - بشكل عام - عند كتابتة لأى نص، وخاصة إن كان هذا النص معروف فى إطار منظومتة الثقافية، قد تدفعنا إبدعاتة إلى إكتساب إيحاءات جديدة، وتفهم لمضمون الكلمات، كما تفهمها هو كقارئ لها. ويكون المتسبب الحقيقى وراء ذلك: (١) الأسلوب الكاليجرافى، (٢) والوسائط المستخدمة، (٣) واللحظة الإنفعالية، وأخيراً يتحكم بهم جميعاً عاملحضور الذهن“. فعند قرأتنا لنص دينى أو أدبى قديم مكتوب بنمط خاص، نستشعر من خلال الأسلوب الكاليجرافى، مدى قدرة الخطاط على توضيح معانى الألفاظ، من قوة أو تسامح أو حب أو وصف أو موعظة ...إلخ، فتارة نجدة يمد فى متن بعض الحروف أو الكلمات أو تارة أخرى يركز على إبتكار لأشكال جديدة لنهايات الحروف، فيحدث لنا ربط مباشر بين مايوحى به لنا الشكل من معانى، وهو ما نطلق علية الدلالة المصاحبة أو الإيحائية Connotation، وبين المعنى اللفظى للكلمة أو النص ودلالتهما الإصطلاحية Denotation، فى سياق النص العام. 

 

شكل ٨-٩: من اليمين: مخطوطة للملكة إزابيلا ملكة إنجلترا، حوالى ١٣٤٠. صفحة من القرآن الكريم، خط مغربى، ١٥٦٨.

 

فما نكتسبة من إيحاءات أثناء قرأتنا، هو ذاك الكيان الواحد لـلفظ وشكل“. ”فهى حالة التوازى Dualism، والذى تعكسه ثقافة ميتافيزيقة. فما يسمى بالچفر، وهو علم الحروف“, والذى كان يطلق علية أيضاً علم هندسةالروح، القائم على الربط بين الأحرف والأرقام، ليعكس فكرة جابر إبن حيان فى تحول الخامة إلى خامة أخرى، والرمز إلى رمز أخر، لإعطاء حركة دائبة لنمط خطفلكى“ -إن صح التعبير. فمن خلال الكلمة المكتوبة نستطيع الخروج بقراءة جديدة لبنائية النص. فدلالة الكلمة، قد تتطور وتتعاظم، كغابة من الأرقام والأشكال الشعرية. فعند جماعة الحروفيين، تتجلى قدرة الله سبحانة فى صورة نبيية وعبادة من البشر. فالحروفيين يؤمنون بأن للقرأن الكريم نوعين من القراءة: جانب نراة ونتعرف على حروفة ومردودها فى أوجه النشاط الأنسانى وأشكالة، وجانب أخر هو كلمة الله العليا، والتى لايستطيع تفسيرها إلا فقهاء أجلاء. وتعتبر كلمةحبيبةللقندوسى، والمكتوبة بخط مغربى (شكل ٢) مثال لهذا النوع. فتتحول الأحرف والكلمات إلى صور شبيهه بالكائنات الحية أو الشخوص، أو إلى زخارف أو إلى حروف مطعمة بالزخارف النباتية أو إلى حروف غاية فى حدة بنائها الهندسى، بحيث يصعب على القارئ التعرف على معانيها اللفظية. وتكشف لنا الوسائط المستخدمة، مثل نوع الورق أو القلم أو الريشة الممتلئة بالحبر، بتلك الأعمال موقف الخطاط تجاة دلالة الكلمات اللفظية بشكل مباشر وواضح لحظة كتابتة لها. فالإنفعالات اللحظية للخطاط المغربى - على سبيل المثال - لمعانى النص أو الكلمة المكتوبة بواسطة الفرشاة، نراها تتغير من نسخة إلى أخرى. فحالتة المزاجية والنفسية تلعب هنا دوراً كبيراً، ينعكس على عملة اليدوى، فتخرج المستنسخات فى صور متشابهة، ولكنها لا تصل إلى حد التطابق. وأيضاً نجد العديد من المستنسخات لنصوص أدبية أو فلسفية أو طبية، بل أيضاً  لمستنسخات للقرآن الكريم، مليئة بمعالجات بصرية مختلفة: يثبت بها النص اللفظى، ويتغير بها شكل الكلمات.

ونحن إذ نتعرض لمثل تلك الأساليب الكاليجرافية المعروفة، وتلك النظريات - التى لانعرف تحديداً من أين جاءت - هذا لأنها إنتشرت من بلاد الشرق ووصلت حتى بلاد الغرب، ومازالت تعيش فى ثقافتنا المعاصرة. فيكفى ما نراه من لوحات حائطية مليئة بالكتابات فى جميع نجوع مصر. وما أورداه باحثين عرب من أمثلة كثيرة تمتد إلى القرن العشرين. 

 

 

 

شكل ١٠-١١: من اليمين: ياقوت المستعصمى، صفحة من القرآن الكريم، خط نسخى، حوالى القرن ١٣. القندوسى، لفظحبيبة، خط مغربى حر، حوالى القرن التاسع عشر. 

 

  1. 3. التيبوغرافيا Typography و ثقافة الحرفة اليدوية:

إن تعريف كلمة التيبوغرافيا نبع من تقنياتها، وهو إعطاء شيئاً ما (الحرف أو الشكل) تجسيم ودرجة عالية من التجريد، وهذا التفسير لربما ظهر مع إختراع الحروف الطباعية المتحركة المصنوعة من المعدن. فخروجاً من الصين وكوريا فى القرن الثالث عشر، غزت التيبوغرافيا العالم بأسره. ومنذ عصر النهضة ومع إختراع ماكينات الطباعة وحتى الثورة الصناعية فى أوروبا، كانت التيبوغرافيا تكتسب مع كل إبداع فنى وإكتشاف علمى، مفاهيم جديدة، حتى أصبحت تدريجياً إحدى وسائل الإتصال الهامة، وإنتشرت كعنصر ثقافى فى أوائل القرن العشرين. وفى النقيض لما أظهرته لنا التيبوغرافيا من تقدم غير مسبوق وبخطوات ثابتة وسريعة منذ منتصف القرن التاسع عشر، تعكس مراحل تطورها منذ إختراع آلة الطباعة وحتى ١٨٥٠، خطوات بطيئة وإتجاهات ذو تأثير بسيط على التيبوغرافيا الحالية. فقد إنحصرت التيبوغرافيا فى عصرها الأول (١٤٥٠-١٩١٤) على تصميم الكتاب، وبعض الجرائد، التى ظهرت بنفس مفهوم تصميم صفحات الكتب. ولكن العنصر الأساسى الذى تحكم فيما بعد (مع بدايات القرن السادس عشر) فى التطور التيبوغرافى هو تصميم الحرف الطباعى. أما باقى عناصر الكتاب كانوا بمثابة عناصر ثانوية، تضاف وتزخرف، ولايوضع لهم معيار جمالى جديد. ومع مرور القرون، لم يكن تصميم الكتاب فى مجملة يتطور تطوراً ملحوظاً، كان يتنوع فى أشكالة، ولكنه مازال ملتصقاً فى تصميمة بثقافة الحرفة اليدوية. 

 

        

 

شكل ١٢: (١) كنيسة سانت إيفو ديلا سابينسا S. Ivo della Sapienza، طراز باروك، حوالى ١٦٤٢. (٢) مبنى الأوركسترا الهارمونى ببرلين، تصميم هانز شارون، ١٩٦٣. (٣) جامعج كمبريدچ، إنجلترا، تصميم ج. ستيرلينج، ١٩٦٨. متحف جوجين هايم، تصميم ف. ل. رايت، ١٩٤٣. (٥) جزئية من تصميم فينتورى و راوش للملعب الوطنى لكرة القدم بفام، ١٩٦٧. (٦) فيلا سافوى، بويسى، تصميم لو كوبوازية، ١٩٢٩. (٧) أنماط حروف نابعة من نمط خط الجروتسك - فروتيجير، فوتورا، روتيس، انسيجنيا، مابين ١٩٠٠ و١٩٨٠. (٨) أنماط خطوط نابعة من نمط خط المالديف والأنتيك الكلاسيكى - بودونى و ديدو، القرن التاسع عشر.

 

فما قام به جوتنبرج Gutenberg، هو تقليد لنفس أشكال أنماط الحروف المكتوبة، التى ظهرت مطبوعة بنمط خطمينوسكل القوطى Gothic Minuskel“ (شكل ٢-د) الذى يعود إلى القرن الحادى عشر. وما يستحق ذكرة فى تلك الجزئية، هو نمطرينيسانس الإنسانى Human Renaissance“ أو الآنتيك المائل Antiqua-Italic، والذى يعتبر ألدوس مانوتيوس Aldus Manutius“ المستخدم الأول لها بنهاية القرن الخامس عشر. فكان أول نمط خط طباعى يختلف فى أشكال ونسب حروفة عن الخط اليدوى. وعلى حد قول چان شيشهولد: ”نستطيع وصفة بأنه أول تيبوغرافى لصناعة الكتاب بالقرون الوسطى، فجوتنبرج بالنسبه له يعتبر مقلداً لمخطوطات القرون الوسطى“. وقد توالت بعد ذلك أجيال من التيبوغرافيين، إحتذت بمنهجية ألدوس، أمثال بودونى Bodoni و ديدو Didot وفالباوم Walbaum، بنهاية القرن الثامن عشر، وخرجت بأنماط خطوط عديدة أهمها الآنتيك الكلاسيكى Calssic Antiqua ونمط خط ميدياڤل Mediäval. وفى نهاية القرن التاسع عشر ظهر أول نمطين يعكسان بدايات روح العصر الصناعى، وهما الجروتسك Grotesk والإچيبسيان Egyptienne (شكل ١٢-٧). 

 

         

 

شكل ١٣-١٥: من اليمين: ف. ليجيه، شكل بنائى، ١٩١٣، ألوان زيتية على قماش، ١٣٠سم x ٩٧.٥ سم. كاندنسكى، بالأزرق، ألوان زيتية على ورق، ٨٠ سم x ١١٠ سم، ١٩٢٥.  ب. بيكاسو، قفص الطيور، ١٩٢٣، ٢٠٠.٧ سم x ١٤٠.٥ سم، ألوان زيتية وفحم على قماش.

 

    1. 3.1. التيبوغرافيا الحديثة وثقافة الصناعة:

تقترن التيبوغرافيا الحديثة بعنصريين أساسيين: (الأول) نابع من الفن التشكيلى المرتبط بالصناعة وكل ما يحدث من إختراعات وإكتشافات علمية، (الثانى) خروج الفكر الغربى من إطار الدين، ومحاولة العثور على بدائل روحانية جديدة من الحضارات والفنون القديمة (الأفريقية، والإسلامية والآسيوية والبدائية...). فقامت التيبوغرافيا علىالمعرفة المكتسبةمن تجارب وأعمال المدرسة الروسية السوبرماتيزم Supermatism، والمدرسة الهولندية نيوبلاستيسزم Neoplastizism، وبشكل أكبر من المدرسة البنائية Constructivism، والذين ظهروا، كنتيجة حتمية لحركات التطور المعرفى والإنسانى. فكانت فكرةالفن لخدمة المجتمعأو الفن كعلامة ثقافية/إجتماعية، مازال لها مردود فى أعمال التصوير. ولكنها إنتهت بإيجاد مفهوم جديدالفن للفن L´art pour l´art“. فلم يعد فن التصوير يعرض الواقع أو يحكى قصة أو رواية (مثل لوحات القرون الوسطى). والسبب فى ذلك قد يرجع إلى إنتشار الفوتوغرافيا كوسيط فنى، والذى أخذ مكانة كبيرة وبسرعة غير مسبوقة بأوائل القرن العشرين. وأثرت تلك الحركة بشكل كبير على المدرسة الإنطباعية Impressionism. فمنذ ذالك الوقت بدأت فى الظهور وعلى فترات زمنية متقاربة، حركات من التغير فى الأساليب الفنية، لم يلاحظ تطورها المجتمع بشكل كبير. ففى حقيقة الأمرلم تكن كل تلك الإتجاهات الفنية طرز أو مدارس، فالأشكال الدخيلة على الثقافة الغربية لم تجد لها قبول داخل المنظومة الثقافية فى ذاك الوقت. ففيما يبدو كان يحاول المصور جاهداً إنقاذ مفهوم اللوحة الجديد من الزوال، وعدم الإنخراط فى قيم ثقافية، تجمد بها الوعى التشكيلى. فكان لتلك الخطوات الثورية فى اللغة التشكيلية، التى قام بها أجيال من المصورين المبدعين، الفضل فى بناء الأساس القوى والمؤثر فى أعمالنا البصرية اليوم. فأمثال بول سيزان Paul Cézanne و ليبرمان Lebermann، من الإنطباعين، هم الذين أعطوا لنا رؤية جديدة لمفهوم اللون فى التصوير، حيث كانت اللوحة بالنسبة لهم لاتنشأ منإنعكاس للواقع، ولكن من إنطباع الفنان لحظة تصويرة للواقع، والذى يخرج فى مساحات لونية توحى بعناصر وأشكالاً واقعية.

 

 

 

شكل ١٦-١٨: من اليمين: أمبيرتو بوتشينى، طاقة الشارع، ألوان زيتية على قماش، ١٠٠ سم x ٨٠ سم، ١٩١١.  ت. مارتينى، تسانج تومب تومب، ١٩١٤. كاندنسكى، غلاف كتاب من كتب الباوهاوس، حوالى ١٩٢١. 

 

خرج بعد ذلك الفنانين بإتجاهات جديدة: فبدلاً من لجؤهم لمواضيع تعكس عشوائية الطبيعة أو الحالة الإنطباعية الذاتية، والتى قد لاتبدو واضحة للمتلقى، حاول التكعيبين والمستقبلين ترسيخ مفهومالشكل الواضح أو المحدددون اللجؤ فى ذلك إلىالميكنة المطلقة“. ومنذ ظهور هاتين المدرستين أصبح العمل الفنى قائم على البنائية والتجريدية.

فنرى ظاهرة هامة ومتفردة فى فترة الحداثة، وهى أعمال الفنان الروسى كاندنسكى Kandinsiky، الذى حول لغة التشكيل إلى لغة (موسيقية) ذو علامات مرئية مجردة، مليئة بالعناصر الهندسية كاشفة للتصميم البنائى للسطح، الذى كان له مردوداً واضحاً فى أعمالة التيبوغرافية. فظهرت أعمال فنانين آخرين كخليط من التكعيبية والمستقبلية. فقام  بعضهم بتلوين الطبيعة بقواعد الرسم الكلاسيكية، ولكن فى تكوينات حرة، مخالفة لعقلانية ومنهجية التكعيبيين، مبدعين لإتجاة فنى جديد.

 

 

 

 

شكل ١٩-٢٠: من اليمين: كازمير ماليفيتش، تكعيب-سوبرماتيزم، ١٩١٤-١٩١٥، قلم رصاص على ورق، ١٦.٥ سم x  ١١.١ سم. إل لاتسسكى، ملصق: ضربة للبيض بالحجر الأحمر، ١٩١٩.

 

كل تلك الخطوات الفنية، ظلت فى تطور مستمر فى أساليبها، حتى إندلعت الحرب العالمية الأولى، والتى كان أحد نتائجها هو الإهتمام الكبير بلغة الشكل فى جميع أنواع الفنون، وأدى ذلك لنقص كبير فى الصيغ التصميمية ذو المناهجية الواضحة. ولربما أدى ذلك إلى ظهور الدادئية Dadaism، فمن فرنسا ظهر تزارا Tzara ومن سويسرا آرب Arp ومن ألمانيا شفيترز Schwitters و هويلسنبرج Huelsenbeck و جروتس Grosz. وجميعهم إشترك فى إبراز الروح العدائية لكل أنواع الإتجاهات الفنية السابقة، فبكل حرية وبدون مراعاة لشعور المتلقى، أظهرت أعمالهم الحقيقة الدامية للواقع الأوروبى، مستخدمين لعناصر ورموز ذى دلالات تذكر بماضٍ ومعاصر أليم. ولكن بعد وقت من إنتهاء الحرب، بدأت وبصورة منفردة، حالات من المصالحة: والشئ الوحيد الذى تبقى من كل تلك الفوضى، وعاش كحقيقة، وألتصق إسمة بالحداثة، هى أعمال منهدسى العمارة، والإنشاء والميكانيكا. فقد كان المتلقى يحاول الوقوف على طبيعة الأشياء فى خضام فوضى عارمة، وتلمس فوائد الشكل، فى محاولة لإستيعاب وظائفها بعقلانية الرياضيات والهندسة.

ومن هنا بدء تقويض حالة الفردية وظهور دوائر فنية، تعتمد فى تصميمتها على عناصر بنائية أولية، لتنتشر فى أوجة الحياة المختلفة . فأول أعمال لمصور هام بعد الحرب - ولكن بدايتة كانت قبلها - هو المصور الروسى كازمير ماليفيتش Kasimir Malewitsch، رائد مدرسة السوبرماتيزم، نراها قائمة على وسائط هندسية أولية، وأشكال وعلاقات لونية يلعب من خلالها عنصرى الزمن والضؤ أهمية كبرى. وفى عام ١٩١٩ توقفت تلك المدرسة. ولكن لوحة ماليفيتش (المربع الأسود: والموضوع على مساحة مربعة بيضاء) (شكل ١٩)، مع كل من أعمال الفنانين الهولنديين النيوبلاستيزم (موندريان وفان ديوسبورج)، والتى تعتمد على الدينامية فى الفراغ، الخارج من مساحات وأشكال ثابتة، أصبحا نقطة بداية لتصميم السطح. 

جاءت بعد ذلك أعمال الروسى أل لاستيسكى El Lissizky، الذى أكتشف ما يسمى بـبرون Proun“، وهى رسومات تخلق جواً من التوتر بين العناصر المجسمة المرئية وبين الفراغ الانهائى. فقد جمع الأشكال المتناثرة الموجودة بأعمال فنانى السويرماتزم، وخلق أعمالاً مستوحاة من فانتازيا جماليات معاصرة، ومن الإمكانيات التقنية التى لاحصر لها. لتخرج أعمالة شبيهة بالحلم والخيال، مليئة أيضاً بأشكال مجردة لانستطيع الوقوف على زمن لها.

 

 

 

 

 

شكل ٢١-٢٣: من اليمين: مارسيل دو شامب، فونتينا، عمل مركب (؟)، ١٩١٧. ف. تتلين، ماكيت لبرج تذكارى، ١٩١٩/٢٠. كازمير ماليفيتش، غلاف كتاب، حوالى ١٩٢٨.

 

ونرى فى تلك الحقبة، وبالتوازى مع السوبرماتيزم، محاولات بيكاسو التكعيبية فى إستخدام خامات غريبة عن ماتعودنا علية مثل المعادن والأخشاب والورق، فى أعمال التصوير، وهو ما قد دفع بالبنائيين Constructivism الروس فى ذاك الوقت إلى تجارب مليئة بالألوان العاكسة لفكرة ماوراء الطبيعة، من خلال إستخدامهم لخامات صناعية من الواقع مثل الصاج والتروس والزجاج والخشب (شكل ٥)، وخارجين من ذلك بعمل بنائى، مثل ما قدمة فلاديمير تاتلين Wladimir Tatlin والذى لم يكن ماكيت لعمل ضخم مرئى فقط ، فكان الأهم هو حالة إنشغال الفنانين التشكيلين بكل ماحولهم من وسائط ومعدات وآلات وأشياء جديدة، لتخلق تلك الحركة جواً من الإبداع وهو: تصميم كل شئ متواجد فى حياتنا. وهو الشعار الأساسى الذى قامت من خلالة مدرسة الباوهاوس بألمانيا (فايمر) عام ١٩١٩، وأيضاً وبدون أى علاقة بينهما، قام بروسيا (موسكو) وتقريباً فى نفس التوقيت عام ١٩١٨، مدرسة شبيهة بمدرسة الباوهاوس وهى الورش الحكومية العليا للفن WCHTEMAS. وفى فايمر أعلن مؤسس الباوهاوس المعمارى فالتر جربيوس Walter Gropius، أن المدرسة لا تسعى إلى إبداع لوحات جميلة، ولكن إلى تصميم مبنى، وأى منتج صناعى. ولذا عندما شاهد الكاتب الروسى تروتتسكى Trotzki معرض الباهاوس بمدينة فايمر فى سبتمبر عام ١٩٢٣ قال: “إن الحائط الفاصل بين الفن والصناعة قد هوى. فالطراز المتوقع فى المستقبل لن يكون منمقاً (مزخرف) ولكنه سيكون مشكل (مجسم). ويكون من الخطأ تفهم ذلك على إنه (محو) للفن، أو على إنه إنغلاق الذات على التقنية. فلإبداع شكلاً مثالياً - بغض النظر من أهمية التحكم فى الوسيط وفى أساليب تصنيعة - يجب مراعاة الإبداع الخلاق والذوق. وعلينا أن نؤمن بالتماشى مع ثقافة الصناعة، بحيث تنعكس الإبداعات الفنية الخلاقة فى مجال صناعة الوسائط والمنتجات، والإهتمام بالـالشكلالمثالى للمنتج وليس بالإرهاصات الفنية المزخرفة لهذا المنتج. وهذا لايعنى على الإطلاق محواً للعمل الفنى، ولكنه تصميم للمستقبل. بهذا، لن يبقى لنا سوى إحتمالية العمل الجماعى مع كل أنواع التكنولوچيا المتاحة بأفرعها المتعددة.“ 

 

 

 

شكل ٢٤-٢٦: من اليمين: ألفريد شتيجلتز، جيورجيا أوو كيفر، ١٩٢٢، بالاديميوم. مان راى، فوتوجرام، ١٩٢٣، طباعة فضة جيلاتينية. مان راى، (اللقطة الأولى من مجموعة) أبيض وأسود، طباعة تحميض فوتوغرافى ومونتاج.

 

    1. 3.2. الوظيفة وثقافة الصناعة:

لايوجد مستخدم لايعى أهمية سهولة إستخدام آلة أو لعبة أو سيارة ...ألخ. ولكننا نجد فى إطار مجال تصميم الإتصال، وتحديداً تخصص الجرافيك، صعوبة فى تحديد الفروق الواضحة بين ما يعنيه مصطلحالوظيفةومصطلحالجمال“. فكل مصمم يتجهه إلى الإهتمام بكنهة الرسالة المراد توصيلها، مستعيناً بآليات بصرية بسيطة التراكيب، نجدة متهماً بالفشل من قبل آخرين يهتمون بالمقام الأول باللغة البصرية (وتجميل السطح) إذا صح التعبير، على حسابمضمونالرسالة المراد توصيلها. ففى عام ١٩٢٤ أعلن المصمم لازلو ماهولى ناچى Laslo Maholy Nagi، وهو أحد مؤسسى مدرسة الباوهاوس الألمانية، عن أهميةتصميم أنواع من الخطوط الطباعية الموحدة النظم، والأحجام، والخالية من المغالاة فى نسب حروفها التى تنزل أو ترتفع عن السطر الأساسى“. هذا التصور عن مستقبل تصميم أنواع خطوط لاتينية جديدة ذو مواصفات يتوحد بها سمك جميع حروف وأرقام ورموز الآبجدية، جاء فى زمن ما بعد الثورة الصناعية فى إنجلترا، والإبداعات والإختراعات فى كل نواحى العالم الغربى، فى وقت كان يسعى فيه كل مبدع إلى إيجاد صيغ صناعية جديدة، أو أشكال ذو صبغة صناعية. ليتعدى مفهوم فن المستقبل حدود ماكان يعرف بالماضى على أنه فن. وتتداخل التيبوغرافيا مع الفن فى مرحلة جديدة، لتضم إليهاحرف جديدوهو الفوتوغرافيا، والتى أصبحت هى والفيلم وسائط فن المستقبل. فنرى مصورين تشكيليين يلجؤن إلى لغة الفوتوغرافيا والفيلم أمثال الفنانين الأمريكيين مان راى Man Ray (يصور فوتوغرافيات مجردة)، و ألفريد شتيجلتز Alfred Stiegliz والمصور السويدى فيكينج أيجلينج Viking Eggeling، والمصورين الألمان هانز ريشتر Hans Richter و ل. هيرشفيلد-ماك L.Hirschfeld-Mack (فيلم تجريدى، إنعكاسات ضؤية) و فيرناند ليجيه Fernand Léger و موهولى ناجى M. Nagy يخرجون بأعمال (الفيلم الميكانيكى). 

 

 

 

شكل ٢٧-٣٠: من اليمين: ألكسندر رودشينكو، الطيران، ماكيت لغلاف مجموعة كتبقصص رحلات الطيران، ألوان جواش وطباشير أبيض على ورق، ٢٤.٩ سم x ١٥.٦ سم، ١٩٢٣. نماذج من الباوهاوس: غلاف كتاب، ألبرت جلايس، ١٩٢٨. ملصق لمعرض الباوهاوس ١٩٢٣. غلاف كتاب، ماهولى ناچى، ١٩٢٩.  

 

وتماشياً مع روح العصر، شاع إستخدام أنماط خطوطجروتسك، الخالية من الزلف Sans Serif، بهدف التوافق بين متطلبات التكنولوچيا الحديثة، والإبداعات الصناعية الجديدة، وبين معايير فلسفية. ترسخ هذا المفهوم لكلمةالوظيفةفى أذهان المصممين الجرافيكيين، فظهر فى عام ١٩٢٨، نوع خط جديد يسمىفوتورا Futura“، للمصمم بول رينر Paul Renner، نرى به ولأول موة حرف الـ ”O“ رسم على هيئة دائرة كاملة (شكل ١٢-٧). ومطبق نفس البناء الهندسى على باقى أحرف الأبجدية. أيضاً، ومع ترابط العلوم والفنون مع بعضها البعض، أصبحت الوظيفة إنعكاس لمصطلحالموضوعية، والذى أطلقتة الفلسفة، وأصبح الحلم الأكبر لدى كل مبدع يحلم بالحداثة ”Modenism“، خلق شكل فريد من نوعة، حاملاً لشعارالوظيفةالذى إرتبط بالحداثة. وفى مرحلة ما بعد الحداثة Post-Modern، تصادم هؤلاء المصممين مع تيارات ضد مابعد الحداثة مايسمى بـ“ Anti-Postmodernist“. فنرى المدرسة السويسرية للتصميم الجرافيكى، على سبيل المثال، تحاول جاهدة نشر مفهومالوضوحفى التيبوغرافيا، لتطبيقة فى جميع أنواع المطبوعات: ”كلما زادت العناصر المرئية وظيفية ووضوح، كلما أصبحت تلك العناصر وسائط فعالة لعكس موضوعية الأفكار التى وراء العمل ذاتة“.

 

 

 

 

شكل ٣١-٣٣: من اليمين: هربرت كابتسكى، ملصق، ١٩٧٨، فيچيوال. ميلتون جلاسر، ملصق، ١٩٦٩، بوب دالون. بابلو بيكاسو، هيركين، عمل مركب على قماش، ١٨٣.٥ سم x ١٠٥ سم، ١٩١٥.

 

    1. 3.3. التيبوغرافيا وثقافة مابعد الحداثة:

ما أفرزتة فلسفاتثورة التنوير، مازلنا نجد له مردود فى فترة مابعد الحداثة. فمحاولات العودة مرة أخرى إلى تطعيم الأعمال بأشكال ورسوم - مثل أعمال بيكاسو فى أوائل القرن العشرين، نجد له إتجاة واضح فى التيبوغرافيا. تارة أشكال غريبة عن الثقافة الأوروبية مثل أعمال ميلتون جلاسر Melton Glaser (شكل ٣٢)، وتارة أخرى نابعة منها مثل أعمال چوزيف مولر بروكمان Josef Mueller Brockmann (شكل ٣٦)، والتى أتت كرد على الإتجاهات البرجماتية الصارمة فى التيبوغرافيا، وأعتبار أن التصوير القصصى Illustration يمكن إستخدامة كنعصر مؤثر، ويلعب دور وظيفى مثلة فى ذلك مثل الخط المكتوب بالآيدى. نرى أيضاً جماعة البينتاجرام Pentagram للتصميم، ترفع شعارالوظيفة قبل أى شئ respect of function above everything else“، ولكن بشكل مغاير لمفهوم بروكمان، فكانت لاتميل للحلول البصرية المستخدم بها عناصر وعلامات متداولة، ولكنها توافقت معه فى إبراز التصوير القصصى ولكن بشكل عاكس لفردية مبدعة، وليس كنمط مأخوذ من الغير. لذا صرحت جماعة البنتاجرام: ”أن الفرق بين العمل العادى والعمل الإبداعى هو الحدس Intuition“. أيضاً كان لبول راند نفس المفهوم: “فالبنسبه إليه يكمن مفهوم الإضافة الإبداعية فى الغموض“. لقد ظهرت مناقشات كثيرة حولما بعد الحداثة Postmodernism”. حتى أن الكاتب الأمريكى توم والف Tom Wolfe يكتب من نيويورك مهاجماً المعمارى روبرت فينتورى Robert Venturi (أحد أعمدة ما بعد الحداثة) فى مقالاتةمن الباوهاوس إلى مدخل منزلنا  From Bauhaus to Our House”، والسبب فى ذلك قد يرجع للتشابة الكبير بين أعمال فينتورى وأعمال فالتر جروبيوس. فلم يتفهم توم والف رجوع فينتورى إلى إستخدام الأشكال المعروفة والتجارية،وأنه بذلك ماهو إلا إمتداد لمدرسة الباوهاوس. فأعمال فينتورى كحلول لمساحات واسعة، ونجاحاتة فى تصميمها، تعكس مفهوم الوظيفة لدى الباوهاوس، ولكنها ماهى إلا حلول مكررة وعقيمة” (شكل ١٢-٥).

إن مفهومما بعد الحداثةمازال غير محدد، وقد إسُتنفذت عقول وطاقات مفكرين كثيرين فى تحديدة، ومحاولة الرد على الأسئلة التى تحاول الوقوف على ماهيتة. فأعمال ما بعد الحداثة، لايمكن الوقوف على هويتها مثلما هو الأمر مع فنالطليعة، والذى ظهر فى فترة زمنية محددة وبأسلوب نستطيع بسهولة التعرف عليه من خلال نجاحات كبيرة. فمشكل ما بعد الحداثة الأساسى كان ينبع من تفهم لحقيقتة: التى إما أن يقول العمل شيئاً جديداً، قائم على معايير الحداثة، أو أن يقول كلمة أخرى تختلف الرسالة بها عن ماسبق. وعلى حد قول أولف إردمان زيجلير: ”أن كل ما حدث فى مرحلة مابعد الحداثة كان مجرد إضافات كثيرة لإبداعات سابقة“.

 

 

شكل ٣٤-٣٦: من اليمين: جونتر رامبو، ملصق، ١٩٧٨، أوتيلو. بول راند، ملصق، ١٩٨١، أى بى أم. ن. چ. بروكمان، ملصق، ١٩٧١، المعرض الدولى للإتصال.

 

حتى أننا مازلنا بشكل أو أخر نرى لها علامات فى الثمانينات من القرن العشرين. فأعمال المصمم نيفيل برودى Neville Brody، والذى ظهر أسمه لامعاً فى مجال الأتصال المرئى من قلب العاصمة الإنجليزية لندن، قد تمرد بعض الشئ على العديد من العناصر والأسس التيبوغرافية المعروفة منذ مدرسة الباوهاوس، أو تلك التى تواجدت قبلها مثال الطليعة -الأفنجارد Avante Garde، فرفض العمل من خلال منظور الباوهاوس الصارم فى تركيباتة البنائية وتلخيصة للحواف الخارجية للحروف (شكل ٢٨-٣٠). ورغماً من ذلك، نراة متأثراً بها، مثلة مثل العديد من التيبوغرافيين، فيظهر تأثير فن الطليعة فى تصميم الخطوط الطباعية مثل خط إنسيجنا (شكل ١٢-٧)، أو تأثير الباهاوس فى النظم التيبوغرافية للصفحات (شكل ٣٧-٣٩)، ولكن الجديد عند برودى هو إستحداثة لأساليب ومعالجات جرافيكية للصور والمساحات والتقنيات، النابعة تارة من آلة تصوير المستندات، وتارة أخرى من أدوات الحفر اليدوى (شكل ٣٦).

ولعل أفضل خاتمة لهذا البحث، تكون مقولة التيبوغرافى المعروف أوتل أيشر Otl Aicher لمعنى الثقافة: ”هى الأسلوب الذى يجب أن نعيش به، وليس كما يراة الكثيرين من أنه صفة لحاضر يعيشة المجتمع“. فربما بسبب تلك الفلسفة التى تصبو إلى عالم أفضل، نستطيع كمصممين عرب تخطى حواجز كثيرة، ونلحق بركب ثقافة الآلفية الثالثة. فالسبب الأساسى فى نجاح أيشر، كان "القدرة على عكس الفكرة مرئيا، وقياس مدى نجاحها".

 

 

شكل ٣٧-٣٩: ن. برودى - من اليمين: ، صفحة بمجلة، ١٩٨٢. غلاف كتاب، ١٩٨٦. ملصق،  ١٩٨٣، السقوط. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  1. 4. المراجع Reference:

 

Abbott, N.: The Rise of the north arabic script and its Kur’anic development, with a full description of the kur`an manuscripts in the Oriental Institut, Volume L, Chicago, Illinois, 1938.

 Abdalla, M. Hazem: Analyse der Arabischen Schrift..., Wuppertal, 1997.

Aicher, O.: Die Welt als Entwurf, Berlin, 1991.

– (Hrsg.) Typographie, Berlin, 1989.

Bill, M. (Hrsg.): Kandinsky, Essays über Kunst und Küntler, 3. Aufl. Bern, 1973.

- : Kandinsky: Punkt und Linie zu Fläche, 6. Aufl., Bern, 1969.

Bose, G., Brinkmann, E. (Hrsg.): Tschichold, J.:Schriften 1925-1974, Bd.1-2, Berlin, 1991.

Fleischmann, Gerd (Hrsg.): Bauhaus-Drucksachen, Typografie, Reklame, Oktagon Verlag, Stuttgart, 1995.

Friedrich, J.: Geschichte der Schrift, Heidelberg, 1966.

Frutiger, A.: Der Mensch und seine Zeichen, Bd.1-2, Paris, 1979.

– „eidos“ Beiträge zur Kultur, Bd. 35, Paris, 1979.

Gelb, I. J.: Von der Keilschrift zum Alphabet, Grundlagen einer Schriftwissenschaft, Stuttgart, 1958.

Henckmann, W., Lotter, K. (Hrsg.): Lexikon der Ästhetik, München, 1992.

Honur, H., Fleming, J.: Weltgeschichte der Kunst, München, 1992.

Hussein, M.T.: Mamlukische Kunstformen in der Seidenweberei des 13. bis 15. Jh., Köln, 1963.

Ingarden, R.: Vom Erkennen des literarischen Kunstwerks, Tübingen, 1968.

Kaper, Albert,: Schriftkunst, Leipzig, 1976.

Khatibi, A.K., Sijelmassi, M.: Die Kunst der islamischen Kalligrafie, Köln, 1977, Neuaufl., 1995.

Korger, H.: Schrift und Schreiben, 6. Aufl., Leipzig, 1986.

Kühnel, E.: Islamische Schriftkunst, 2. Aufl. Graz-Austria,1972

- Die Kunst des Islam, Stuttgart, 1962.

L.-Smith, E.: DuMonts Lexikon der bildenden Kunst: angewandete Kunst, Architektur, Fotografie, Grafik,

Maser, S.: Kommunikationstheorie, (Vorlesungsmanuskript ss. 86), Wuppertal, 1966.

 - Zur Philosophie Gestalterischer Probleme, Band 1, 2.Auflage, 1998.

N.E.K.: Bd. 2, Stuttgart, Hamburg, München: Deutscher Bücherbund, 1982.

Ott, N., Stein, B.: Vom Wort zum Bild und zurück, Berlin, 1992

Paetzold, H.: Profile der Ästhetik, Wien, 1990.

Papadopoulo, A.: Islamische Kunst, Freiburg, Basel, Wien, 1977.

Rayef, A. M.: Die ästhetischen Grundlagen der arabischen Schrift bei Ibn Moqlah, Köln, 1978.

Ruder, E.: Typographie, Switzland:  A. Niggli Ltd, Teufen Ar, 1967.

Rüegg, R.:Typographische Grundlagen: Gestaltung mit Schrift, Zürich, 1989.

Rykwert, J.: Ornament ist kein Verbrechen, Architektur als Kunst, Köln: DuMont, 1983.

Stiebner, D. E., Leo, W.: Handbuch der Schrift, München, 1992.

Stierlin, H.: Enzyklopädie der Weltarchitektur, Fribourg, 1977.

Thomas, K.: achwörterbuch zur Kunst des 20. Jahrhunderts, Köln, 1973.

Wozencroft, J.: The Graphic Language of Neville Brody, Spanien, 1992.

  1. 5. التذييل Endnote: